على امتداد الأغوار الجنوبية الفلسطينية المحتلة، تكمن أرض منتهكة الحقوق، تُسرق يومًا بعد يوم بدعم من قوات الاحتلال الإسرائيلي. هناك، لا تُزرع الحياة بل تُقتلع الأشجار وتُخرّب المحاصيل، ولا تُبنى البيوت بل تُهدم حتى الصفائح الحديدية، في مشهد يتكرّر بلا نهاية جراء إعتداءات المستوطنين. ما يُعزز قناعتي بأن إقامة المستوطنات الإسرائيلية ليس بهدف السكن الآمن، بل كأداة استراتيجية لفرض السيطرة، وطرد الفلسطينيين من أرضهم قسراً، وتحويل الحياة اليومية إلى مأساة مستمرة. إذ تُرتَكب الانتهاكات بلا رادع، ويَفلُت المعتدون من المحاسبة، بينما يظل أصحاب الأرض الحقيقيون في بحثهم الدائم عن الأمان ومواجهة الخوف، والعزلة، وفقدان حقهم في البقاء.
انتهاكات يومية... وأرض بلا حماية:
ليست الأغوار الجنوبية مجرد مساحة جغرافية تُحتل، بل هي امتداد لوجود فلسطيني متجذّر، قائم على الزيتون ورعاية الماشية. ومع ذلك، تحوّلت هذه الأرض إلى ساحة مفتوحة لانتهاكات منظمة، تُمارس تحت سطوة المستوطنات التي لا تتوقف عن التمدد. فيتم التضييق على حركة السكان، ويُحرمون من مصادر المياه، ويُمنعون من رعاية محاصيلهم، بينما تُمنح الامتيازات الكاملة للمستوطنين، وكأن الأرض حكراً لهم.
أتسائل كيف للعدالة أن تقتصر على عوالم أخرى في حين أنها تستثني شعباً يقطُن في منطقة تُنزع الحياة من أهلها عمداً، وتُفرَض فيها قوانين عسكرية بقوة السلاح. فتتآكل القرى الصغيرة من الأطراف إذ يطوقها المستوطنون ويحاصرونها. كما تُهدد المدارس بالهدم، إذ ذكرت علياء المليحات (ناشطه هاجرت من المعرجات إلى العوسج) حادثة موثقة تتعلق بإعتداء المستوطنين مؤخراً على مدرسة المعرجات التي شملت ما يقارب 80 طالباً، حيث قام المستوطنين بمهاجمة المدرسة وإلحاق الأذى بالمعلمين، مما أدى إلى إغلاقها. إضافة للتعدي على المسجد وحرقة وتدميره كلياً.
ولم يُستثنى الخوف من الحياة اليومية في قرية المُغيّر أيضاً (شمال شرق رام الله) التي تعاني أضراراً جسيمة جراء حادثة اقتلاع 3000 شجرة زيتون مؤخرا في آب 2025 (قبيل موسم قطف الزيتون)، إذ يعتمد سكان القرية على الزراعة كمصدر رئيسي للعيش. يُذكر أن واقعة إخلاء الأشجار كانت بحجة أنها تشكل "تهديدًا أمنيًا" لطريق مستوطنات يمُر عبر أراضي القرية. تحت هذه الظروف، لا يبقى للفلسطيني سوى خيارين: مجازفة البقاء في أرضه، أو الرحيل مستسلماً، كما يراد له.
قانون دولي غائب... وعدالة معلّقة:
في تفاصيل الحياة اليومية لسكان الأغوار الجنوبية، تتكرر الانتهاكات بحق الفلسطينيين بصورة تكشف عن نمطٍ منظم لا يُمكن وصفه بالعشوائية. مستوطنون مسلحون يهاجمون الرعاة، يسرقون مواشيهم، يطاردون المزارعين، ويقتلعون الأشجار التي تشهد على أجيال من الزراعة والصمود. في كثير من الحالات سرد السكان أن هذه الهجمات تتم بحضور جنود الاحتلال أو تحت حمايتهم المباشرة، ما يجعل من المعتدي يفلت تماما من العقاب.
من الناحية القانونية، يُشكّل هذا الواقع خرقًا صارخًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم القوة القائمة بالاحتلال بحماية السكان الواقعين تحت سلطتها في منطقة c كما يُعدّ عدم ملاحقة المستوطنين قانونيًا شكلًا من أشكال التمييز في تطبيق العدالة، وهو إنتهاك لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية، خصوصًا الحق في الأمان الشخصي.
لكن على الأرض، تبقى النصوص القانونية مجرد حبر على ورق، ما دامت لا تُترجم إلى حماية فعلية، ولا يُحاسب المعتدون، ولا تُردّ الحقوق إلى أصحابها. وهكذا، تُصبح المستوطنة ليست فقط توسعًا جغرافيًا، بل أداة للهيمنة، وطرد الإنسان من حيّزه الذي نشأ فيه لعقود توالتها الأعوام، دون أن تُرفع للمحاكم لائحة اتهام.
أوامر قضائية لا تُنفذ... وصمت يحمي المعتدين:
رغم توثيق الاعتداءات وتكرارها، فإن الواقع يزداد تعقيدًا عندما نعلم أن بعض المستوطنين المعتدين ومنهم "زوهار صباح" صدرت بحقهم أوامر إخلاء أو أوامر هدم من المحاكم الإسرائيلية نفسها، إلا أن هذه القرارات بقيت حبراً على ورق لسنوات، دون تنفيذ، ودون أي ملاحقة قانونية جدية. هذه المفارقة القانونية تكشف أن الجهاز القضائي ذاته، الذي يُفترض أن يكون ضامنًا للعدالة، يُستخدم في كثير من الأحيان كأداة لتجميل واقع ظالم، لا لتغييره.
في ظل هذا الإهمال المقصود لإنفاذ القانون، يُترك الفلسطيني في الأغوار مكشوفًا أمام منظومة لا تعترف بحقه في الأرض، ولا بصوته في المحاكم. إن المأساة هنا لا تكمن فقط في الاعتداء، بل في غياب المسائلة، وتكرار الصمت، وتحول القوانين إلى أداة انتقائية تُطبق على الضحية وتُعطل أمام الجاني.
بين الإنسانية والعدالة الغائبة
ما يجري في الأغوار الجنوبية لا يجب أن يُقرأ فقط كصراع على الأرض، بل كاختبار حقيقي لمفهوم العدالة. إذ لا يكفي توصيف الانتهاكات، بل يجب أن تُفعَّل آليات المساءلة، وتُحمَّل قوة الاحتلال مسؤولياتها القانونية والإنسانية. فبدون عدالة، تبقى الأرض محتلة، وتبقى الكرامة منقوصة، ويبقى الفلسطيني يواجه وحده، مأساة لا يختارها، بل تُفرض عليه طالما بقي صامداً في أرضه كجذور الزيتون المُترسخة.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق