في الوقت الذي تتقدم فيه الدبابات الاسرائيلية في مدينة غزة، وتسبقها الطائرات الحربية بقصف المباني الكبيرة والمركزية، وفي الوقت الذي يهيم أهالي غزة على وجوههم هربًا من النار التي لا ترحم وتتقدم بسرعة مروعة، ويجدون أنفسهم أمام ثلاثة خيارات، إما محاولة الهروب إلى حي أو منطقة أخرى داخل مدينة غزة، على أمل بأن تأتي معجزة وتوقف الحرب قبل وصول النيران إليهم أو دفع كل ما يملكونه أو ما بقي معهم، للنزوح إلى الجنوب قليلًا، حيث تبلغ تكلفة نزوح عائلة حوالي 5000 دولار ولا يضمن هذا النزوح لهم ألا يتعرضوا للقصف في طريقهم أو عند وصولهم، أو ببساطة، البقاء في اماكنهم وانتظار الموت بدلًا من تأجيله أو الهروب منه إلى الأمام بضع أمتار، في هذا الوقت الذي يفكر الناس فقط في كيفية النجاة أو في كيفية الموت، لا يجد الغزيون وقتًا أو مجالا للتفكير بأن مدينتهم، بكل ما تعنيه وبكل مكانتها التاريخية والثقافية والعاطفية، يتم مسحها وإلغاء وجودها!
لدينا رغبة عارمة في البكاء، لكن لا أحد لديه القدرة على البكاء" كتبت ناشطة من غزة، فإذا لم تكن هنالك قدرة على البكاء، كيف تكون هنالك قدرة على التفكير، التفكير بأن أكبر مدينة فلسطينية على الإطلاق، يتم في هذه الاثناء مسحها، بعدما تم مسح سادس أكبر مدينة فلسطينية، رفح، بشكل كلي، وبعدما تم تدمير وبشكل شبه كلي، ثالث اكبر مدينة فلسطينية، خان يونس ومدن أخرى مثل جباليا، وبيت لاهيا ودير البلح، الآن غزة، فوق كل ما تعرضت له من دمار، وبعد قصف كل جامعاتها ومدارسها ومساجدها ومتاحفها ومستشفياتها، تم هذا الاسبوع قصف كل الأبراج السكنية فيها، والآن يتم اجتياح المدينة، وتدميرها كليًا.
قبل عام 1948، كانت غزة مدينة مركزية في منطقة تدعى قضاء غزة، وكانت تضم كل البلدات المجاورة لغزة، وحتى المجدل وعسقلان (اشكلون) واسدود (أشدود) كان مدن فلسطينية ضمن قضاء غزة، وكان سكانها يتلقون معظم الخدمات من غزة، ومعظمهم هجروا إلى غزة بعد الـ1948، وحول البلدات المحيطة في غزة والتي دمرت بعضها بشكل تام في هذه الحرب، يقول المؤرخ والباحث البروفيسور محموديزبك: "بيت حانون وبيت لاهيا شمالًا وخان يونس ودير البلح جنوبًا وكافة القرى والبلدات، كلها قرى كانت مجاورة لمدينة غزة التاريخية، التي اعتبرت مركز المنطقة، وتطورت وتوسعت هذه البلدات مع توسع غزة فيما بقيت غزة هي المركز، وبشكل خاص، الثقافي والعلمي، فبعد أوسلو مثلًا، أقيمت في غزة عدة مؤسسات ثقافية وأكاديمية، بينها 10 جامعات وكليات، تعرضت كلها للقصف والتدمير في هذه الحرب".
ويضيف: “كفلسطينيين وعرب ومسلمين، نُطلق عليها اسم غزة هاشم، على اسم هاشم، الجد الثاني للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، المدفون فيها. كان يعمل في التجارة، وكان يزور المدينة ضمن رحلاته من مكة في الجزيرة العربية إلى الشام. في كل الفترات التاريخية، كانت غزة محطة مركزية ذات دور اقتصادي وتجاري، وأيضًا ثقافي وسياسي. موقعها جعلها حلقة وصل بين مصر والجزيرة العربية والشام. وبما أن لها منفذًا على البحر المتوسط، فقد كانت أيضًا محطة مهمة عند اليونانيين”.
بنت الأجيال المنصرمة كلها
في كتاب “تاريخ غزة” للمؤرخ الفلسطيني عارف العارف (1943)، يلخص أبرز ما كُتب عن المدينة في مصادر عربية وإنجليزية وفرنسية وتركية. تُوصف غزة فيه بأنها “من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا".
ويقول "العارف" في كتابه إن "المعينيين" الذين يقال إنهم أقدم شعب عربي حمل لواء الحضارة في الألفية الأولى قبل الميلاد، هم أقدم من ارتاد مدينة "غزة"، وأسسوها كمركز يحملون إليه بضائعهم كونها كانت محطة هامة للتجارة بين مصر والهند، حيث كانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن، التي يجتمع فيها تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالاً إلى مكة ويثرب "المدينة المنورة حالياً" والبتراء، قبل أن تتفرع إلى فرعين؛ أحدهما في غزة على البحر المتوسط، وثانيهما في طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر.
ويستنتج العارف أن مملكتي معين وسبأ العربيتين كانتا أول من أسس مدينة غزة. ويذكر أن “العوّيين” و”العمالقة” (الفلسطينيين القدماء) الذين ورد ذكرهم في التوراة كانوا أول من استقر فيها. كما أُشير إلى أن غزة ذُكرت في سفر التكوين كواحدة من أقدم مدن العالم.
ويكتب العارف أن الكنعانيين كانوا “أول من أدخل زراعة الزيتون لهذه الأرض، وأول من صنع المنسوجات والفخار والمعادن. هم من اخترعوا الأبجدية وسنّوا القوانين في البلاد كلها. أخذ بني اسرائيل لاحقًا الكثير من عاداتهم وتشريعاتهم وأفكارهم ومبادئهم وثقافتهم”.
غزة خضعت عبر العصور لسيطرة المصريين والبابليين والآشوريين واليونانيين والفرس والرومان. ويصف العارف تاريخ غزة بأنه “مجيد”، لأنها “صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، حتى أنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بالشرق، إلا ونازلته، فإما أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته”.
مركز ثقافي بالحقبة الرومانية
طوال الحقبة الرومانية، كانت غزة مدينة مزدهرة، وشهدت نهضة فكرية وثقافية امتدت إلى العهدين البيزنطي والإسلامي. موقعها كمفترق طرق بين مصر والجزيرة العربية وحضارات البحر المتوسط جعلها ساحة تنافس للملوك والجيوش القديمة؛ فضمها المصريون لقرون قبل أن يستقل بها الفلسطينيون القدماء في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وسيطر عليها الآشوريون ثم الفرس، قبل أن يحاصرها الإسكندر الأكبر ويقتل كثيرًا من سكانها. لكن المدينة أعيد بناؤها في العهد الروماني عام 63 قبل الميلاد، لتبقى مركزًا فكريًا وثقافيًا بارزًا.
ويشير إلى أن اسم غزة تغيّر عبر العصور: الكنعانيون أسموها “هزتي”، والمصريون “غازاتُو” أو “جداتو”، وفي القاموس اليوناني ذُكرت بأسماء “أيوني”، “مينويا”، و”كوستنديا”. الصليبيون سموها “غادريس”. أما أوسابيوس في القرن الرابع الميلادي فكتب أن معنى اسم “غزة” هو القوة والصلابة.
تاريخ الاسلام في غزة
أما في الإسلام، فيقول البروفيسور يزبك: “لا شك أن قبر جد النبي منح غزة رمزية مهمة للمسلمين منذ بدايات الإسلام، لكن مكانتها الدينية تجاوزت ذلك، وكان لها دور بارز في كل العصور الإسلامية”.
ومن أبرز المواقع الإسلامية في غزة المسجد العمري – الذي دُمر تقريبًا بالكامل من القصف الإسرائيلي. المسجد بُني في القرن السابع، وكان ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد الأقصى والجزار في عكا. بُني على أنقاض كنيسة بيزنطية، التي أُقيمت على أنقاض معبد وثني. المسجد تعرّض للهدم في الحرب العالمية الأولى ثم أُعيد بناؤه. وكان المسجد في فترات معينة عبارة عن مؤسسة تعليمية، شيء يشبه الجامعة، تخرج منه آلاف العلماء، ربما أبرزهم الإمام الشافعي وهو واحد من الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة لدى المسلمين السُنّة.
في بداية الأسبوع قُصف مبنى في غزة كان يضم أكبر مجموعة آثار في القطاع يديرها المعهد الفرنسي للكتاب المقدس والآثار. بحسب عالم آثار عمل هناك، تم إنقاذ معظم المقتنيات بعد نقلها لمكان آخر. السلطات الإسرائيلية كانت قد أمرت بإخلاء المخزن قبل قصفه، وبفضل تدخل فرنسا بالتعاون مع اليونسكو والبطريكية اللاتينية، تم منح بضع ساعات إضافية سمحت بنقل الآثار.
لكن معظم المواقع الأثرية في غزة تضررت أو حتى تدمرت. ووفقًا للبروفيسور يزبك: “الكثير من المواقع والمواد التاريخية دُمرت. في المسجد العمري كان محفوظ أرشيف غزة التاريخي ودُمر بالقصف. نجا فقط ما نُقل للحواسيب قبل الحرب أو ما أُخرج من غزة. هناك نحو 30 موقعًا أثريًا مدرجًا ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو دُمرت تقريبًا بالكامل. هذا يثبت أن التدمير في غزة لا يقتصر على البشر، بل يهدف أيضًا إلى محو الحجر والميراث الثقافي الفلسطيني”.
ويضيف: “في الـ600 سنة الأخيرة حافظت غزة على مكانتها كمركز اقتصادي وتجاري كبير. نابليون ارتكب مجزرة فيها ودمّرها، لكنها أعادت بناء نفسها بسرعة. في أواخر العهد العثماني عادت غزة مركزًا تجاريًا مهمًا وجذبت عائلات فلسطينية بارزة. جعلها ذلك مقصدًا للثقافة والعلم بجانب الاقتصاد. في الحرب العالمية الأولى كانت ساحة معركة مع البريطانيين الذين احتلوها، ومع ذلك حافظ أهل غزة حتى اليوم على مقبرة الجنود البريطانيين احترامًا لإرث الآخر، حتى لو كان غازيًا”.
رغم طابعها الإسلامي، كان في غزة حضور مسيحي منذ بدايات المسيحية. ومن الأدلة على ذلك كنيسة القديس برفيريوس (القرن الخامس) التي تضررت بالقصف. وعدد من كنائس غزة أُنشأت بمبادرة من الكنيسة اللاتينية في القرن التاسع عشر، مع المستشفى المعمداني الذي قُصف عدة مرات. إصرار رجال الدين على البقاء يعكس تمسك سكان غزة جميعًا بمدينتهم وبنوعية سكان غزة، رغم أن 60% منهم لاجئون نزحوا إليها عام 1948.
ويقول البروفيسور يزبك: “لا توجد في غزة مواقع يهودية تاريخية دينية، لكن حين كانت مركزًا تجاريًا عاش فيها بعض اليهود كتجار، في انسجام وتعايش كامل مع باقي سكانها”.
فلسطينيًا
إلى جانب مكانتها الدينية، تُعتبر غزة أحد أبرز المراكز السياسية والوطنية في التاريخ الفلسطيني الحديث. بعد النكبة استقبلت نحو 200 ألف لاجئ، فأصبح 75% من سكان القطاع اليوم لاجئين. هؤلاء حافظوا على خصوصيات قراهم ومدنهم بلغتهم وتقاليدهم، وجعلوا غزة عنصرًا مهمًا في حفظ الهوية الفلسطينية.
في الخمسينيات برزت غزة كنقطة انطلاق للمقاومة الفلسطينية، ومنها خرجت الفصائل الأولى. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى 1987 أصبحت مركزًا للنضال الشعبي. وبعد أوسلو كانت قاعدة لمؤسسات السلطة الفلسطينية الأولى: المجلس التشريعي، مؤسسات الرئاسة والوزارات. كما لها أهمية استراتيجية باعتبارها المنفذ البحري الوحيد لأي كيان فلسطيني مستقبلي.
لهذا، تظل غزة عنصرًا رئيسيًا في المعادلة الوطنية الفلسطينية – ليس فقط لموقعها أو عدد سكانها، بل أيضًا لدورها المستمر في تشكيل الهوية والنضال الفلسطيني.
غزة المدمرة والتي ما زالت عملية الإبادة جارية فيها، ليست مجرد ساحة حرب. إنها مدينة من أقدم مدن التاريخ البشري، محطة ربط بين مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام، وفيها تشكلت روابط التجارة والثقافة التي ساهمت بتشكيل وجه المنطقة كلها. فيها نشأت حضارات، كُتبت صفحات من التراث الديني، وبُنيت مساجد وكنائس ومؤسسات عامة شهدت على تنوع ثقافي نادر.
عندما تُقصف الجامعات والمستشفيات والمواقع الأثرية والمراكز المجتمعية، فليست هذه فقط مأساة إنسانية من قتل وتهجير، بل عملية ممنهجة لمحو آلاف السنين من الذاكرة المتراكمة والهوية الفلسطينية-العربية المتجذرة رغم كل الاحتلالات. ما يحدث في غزة ليس فقط جريمة ضد سكانها، بل جريمة ضد التاريخ نفسه وضد الذاكرة الإنسانية.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق